الأحد، 29 يونيو 2014

عبادة انتظار الفرج.. كيف نحققها


أ.د/ عبد الرحمن البر
اللجوء إلى الله في الشدة فطرة إنسانية (1-5)

الحمدُ للهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحْبِهِ ومَنْ والاه، واهتَدَى بهداه.
وبعدُ، فإنَّ للمحنِ والشدائدِ فوائدَ عظيمةً لا يُدركُها إلا أربابُ البصائر وأُولُو النُّهَي، والحكماءُ من ذوي النظرِ النافذِ والقراءةِ العميقةِ لسننِ اللهِ الكونيةِ والقدريةِ ولوقائعِ التاريخِ وحوادثِ الدُّهورِ والأيام.
ومن أهم تلك الفوائد: تعلُّقُ القلوبِ بالله وإحساسُها بالعبوديةِ التامَّةِ لجبَّارِ السمواتِ والأرضِ، حتى ولو لم تكنْ آمنتْ به من قبلُ، وتنسى آلهتَها المزعومة من الملائكةِ والبشرِ وغيرهم، لأنها تدركُ يقينًا أنْ لا سبيلَ للنَّجاةِ من الشِّدَّةِ إلا باللُّجوءِ إلى القويِّ القاهرِ سبحانه، مع أنها قد تنسَى ذلك بعدَ النجاة، وهذا ما جاءَ في آياتٍ كثيرةٍ في القرآنٍ العظيم، منها ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ﴾. (يونس 12).
ومنها ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ (يونس 22-23).
ومنها ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا﴾ (الإسراء 67).
وهذا فرعونُ نموذَجُ الطُّغيانِ والاستكبارِ الأعظمُ في تاريخِ البشريةِ نكَثَ بوعدِه بالإيمانِ بالله إذا كشفَ اللهُ عنه الرِّجْزِ، وظلَّ على غَيِّه وادِّعاءِ الألوهية إلى آخرِ عمُره ﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِين﴾ (يونس 90).
إنها صرخةُ الاستغاثةِ والنجدةِ، تنطلقُ من ضميرِ الإنسانِ إلى تلك القوةِ المطلقةِ، التي يؤمِنُ بوجودِها دونَ أنْ يراها.
فإذا ضاقتْ بالعبدِ السُّبُل، وانقطعتْ بالمكروبِ الحِيَل، فإنه يندفعُ بفطرتِه، يستغيثُ بربِّه، ويلجأُ إليه، يقينًا بأنه وحدَه القادرُ على كشفِ الكرْبِ ورفْعِ الضُّرِّ ﴿قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ﴾ (الأنعام 63-64). يعني: اللهُ وحدَه هو الذى يُنْجِيكم من هذه المخاوفِ والأهوالِ ومن كل غَمٍّ يأخذُ بنفوسِكم، ثم أنتم بعد هذهِ النجاةِ تُشركون معه غيرَه، مُخْلِفين بذلك وعدَكم، حانِثِين فى أَيْمانكم.

المؤمِنُ ينتظِرُ الفَرَج:
إذا كان هذا عامًّا في الإنسانِ مؤمنًا كان أو كافرًا عند الشِّدَّة؛ فإنَّ المؤمنَ يكون من عباداتِه فيها: انتظارُ الفرَج، وترقُّبُ انكشافِ الغُمَّة من الله تعالى، وقوةُ الرجاءِ، وحُصولُ الاضطرارِ، والافتقارُ إلى الله، والانكسارُ بين يديْ جبَّارِ السماواتِ والأرض، فقد أخرج الترمذى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ، وَأَفْضَلُ الْعِبَادَةِ: انْتِظَارُ الْفَرَجِ».
ذلك أنّ أشرفَ العبادات تَوَجُّهُ القلب بهمومِه كلِّها إلى مولاه، فإذا نزل به ضِيقٌ انتظرَ فرجَه منه لا ممَّن سِواه.
إذا ضاقَ أمرٌ فانتظِرْ فرجًا فأصعبُ الأمرِ أدْناه من الفرجِ
وتكونُ المحنةُ للمؤمنِ سببًا مُقَوِّيًا لذلك ودافعًا إلى شِدَّةِ التعلُّقِ والارتباطِ بالله، ومهما تأخَّرتْ عنه الإجابةُ فإنه لا يَمَلُّ ولا يَيْأَسُ، بل يزدادُ عُبوديَّةً وقُربًا وأملًا ورجاءً، ومن ثم يحقِّقُ أحدَ أهم أسبابِ الإجابةِ وهو الاضطرارُ ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ﴾ (النمل 62)، وتأمَّلْ قولَ ابنِ عطاء الله: «لا يكُنْ تَأخُّرُ أَمَد العَطاء مَعَ الإلْحاحِ في الدّعَاءِ مُوجِبًا ليأسِكَ، فهو ضَمِنَ لَكَ الإجابَةَ فيما يختارُهُ لكَ، لا فيما تختاره لنَفْسكَ، وفي الوقْتِ الذي يريدُ، لا في الوقْتِ الذي تُريدُ». ذلك أنَّ المؤمنَ الذي يتعرَّضُ لتسلُّطِ المجرمين علَيْه مظلومٌ، وقد وعدَه اللهُ بإجابةِ دعوتِه، فقد قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أخرجه أحمدُ والترمذي وحسَّنه: «اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ؛ فَإِنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ، يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي وَجَلالِي لأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ».

كيفَ تكونُ عِبادةُ انتِظارِ الفَرَج
رُبَّما يتصوَّرُ العبدُ أنَّ انتظارَ الفرجِ يعني أنْ يقعدَ الإنسانَ منتظِرًا شيئًا يأتِيه منْ وراءِ الغيْبِ دونَ بذْلِ جُهدٍ منه، وهذا خطأٌ محْضٌ، فانتظارُ الفرج الذي هو عِبادةٌ ليس قُعودًا ولا استسلامًا للواقعِ والظُّلمِ، وإنما هو عملٌ قلبيٌّ رُوحيٌّ، وعملٌ عقليٌّ فكريٌّ، وعملٌ ماديٌّ حسيٌّ، فهو اكتسابٌ للأسبابِ كلِّها في الحقيقةِ، وما ألطفَ ما قال ابنُ عطاءِ الله: «إرادتُكَ التجريدَ مع إقامةِ الله إِيَّاكَ في الأسبابِ من الشَّهوةِ الخفِيَّةِ وإرادتُكَ الأسبابَ مع إقامةِ الله إِيَّاكَ في التجريدِ انحطاطٌ عن الهِمَّةِ العَلَيَّةِ».
ونحن في ثورتِنا المباركةِ المنصورةِ بإذن الله في أمسِّ الحاجةِ لأن ندركَ معنى انتظارِ الفرج، وكيفيةَ تحقيقِ هذه العبادةِ العظيمةِ في واقعِنا، وسوف نستعرضُ بعضَ صُوَرِ تحقيقَها في هذه السلسلةِ من المقالاتِ بإذنِ الله، سائلين اللهَ العظيمَ ربَّ العرشِ العظيمِ أنْ ينصُرَ الحقَّ وأهلَه الثابتين عليه، وأن يخذُلَ الظالمين الانقلابيين ومَنْ ساندَهم في ظُلمِهم وأعانهم على بغْيِهم.


انتظارُ الفرج ببذْلِ الجُهْدِ لكشفِ البَلِيَّةِ، ودفْعِ المُصيبةِ، وتخفيفِ آثارها:
حتى وإنْ كانت هذه الأسبابُ في الظاهرِ مما لا يكافِئُ الشدَّةَ النازلةَ، فنحنُ إنما أُمِرْنا باكتسابِ الأسبابِ المتاحةِ قَدْرَ الاستطاعةِ، والنَّصْرُ إنما هو من اللهِ وحدَه، فانتظارُ الفَرَجِ لا يكونُ أبدًا بالقُعُودِ وتركِ الأسبابِ بزعمِ التوكُّلِ على الله.
وكلما أُغْلِق أمامَك بابٌ فابحثْ عن بابٍ آخر، وكلما امتنعَ منك سببٌ فتعلَّقْ بسببٍ آخر، واستعِنْ بسُننِ الله في الكونِ بعضِها على بعض. يقول الأستاذُ الإمامُ حسنُ البنا رحمه الله: «لَا تُصَادِمُوا نَوامِيسَ الكَوْنِ فإنَّها غَلَّابةٌ، ولكِنْ غالِبُوها واستَخْدِمُوها وحَوِّلُوا تَيَّارَها، واستَعِينُوا ببَعْضِها علي بعضٍ، وتَرَقَّبُوا ساعَةَ النَّصرِ، وَمَا هِيَ مِنْكُمْ بِبَعِيد».
لا تَيْأَسَنَّ إذَا مَا ضِقْتَ مِنْ فَرَجٍ يَأْتِي بهِ اللهُ في الرَّوْحَاتِ والدُّلَجِ
وَإِنْ تَضَايَقَ بَابٌ عَنْكَ مُرْتَتَجٌ فَاطْلُبْ لِنَفْسِكِ بَابًا غَيْرَ مُرْتَتَجِ
قال ابنُ عطاءِ الله: «سَوابِقُ الهِمَمِ لا تَخْرِقُ أَسْوارَ الأَقْدَارِ»، فمهما كانتْ هِمَّتُك وتوفُّرُ الأسبابِ لديْكَ فلنْ تحقِّقَ ما هممْتَ به، إلا أنْ يكونَ قد سبَقَ في قَدَرِ الله وقوعُه، فإن وجدتَ سورَ القَدَرِ مضروبًا ووجدتَ نفسَك أمامَ سبيلٍ مسدودٍ فلا تتوقَّفْ أمامَه، بل ابذُل الجهدَ في غيره ممَّا تملكُ فعلَه، مُستعِينًا بالله مُتَعلِّقًا بجنابه:
إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ أَمْراً فَدَعْهُ وَجَاوِزْهُ إِلَى مَا تَسْتَطِيعُ
وَصِلْهُ بِالدُّعَاءِ فَكُلُّ أَمْرٍ سَمَا لَكَ أَوْ سَمَوْتَ لَهُ وُلُوعُ
وبالتالي فعلينا اكتسابُ الأسبابِ لكسْرِ هذا الانقلابِ الدمويِّ الفاشيِّ الذي يريدُ أن يستبدَّ بشعبِنا الحرِّ، وأن يعيدَه إلى عُصورِ القهرِ والذلِّ والعبوديةِ، حتى لو لم تكن بعضُ تلك الأسبابِ في ظاهرِها (في نظرِ البعض) مؤدِّيةً إلى النتيجةِ المرجُوَّة، لأننا نعلمُ أنَّ اكتسابَ الأسبابِ في ذاتِه عبادةٌ، والفعلُ الحقيقيُّ إنما هو لله ربِّ العالمين، وقد كان قومُ نوحٍ يسخَرون من صُنعِ السفينةِ، لأنهم لم يكونوا يرَوْنَ من صُنْعِها فائدةً ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾ (هود 38-39).
وكان نوحٌ عليه السلام نفسُه يدرِكُ أنها ليستْ سِوَى ألواحٍ ودُسُر، وليستْ هي العاصمةَ بذاتها من الغرقِ، ولهذا لما ظنَّ ابنُه أنها لنْ تنفعَ مع أمواجٍ كالجبالِ، والتجأ إلى قِمَّةِ الجبلِ قال له نوحٌ عليه السلام ﴿لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِم﴾ (هود 43).
إنَّ انتظارَ الفرجِ من الله تعالى يُنْعِشُ العبدَ المؤمنَ، ويدفعُه بقوةٍ إلى اكتسابِ الأسْبابِ المعِينةِ على تجاوُزِ المحنةِ قدْرَ المستطاعِ، ولا تمنعُ الشدائِدُ –مهما عظُمَتْ- المؤمنين من الاستمرارِ في جهادِهم ومراجعةِ أنفسِهم والاستعانةِ بالله حتى يُنْزِلَ عليهم نصرَه وتوفيقَه ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ. وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (آل عمران 146-148).

واجباتنا:
على ذلك فإنَّنا معاشرَ الثُّوَّار مطالَبُون باكتسابِ أسبابِ النصرِ في ثورتِنا المظَفَّرة بإذنِ الله، من خلال: تعميقِ الصلةِ بالله ذكرًا ودعاءً واستغفارًا وقيامًا بالليل، ومن خلال: استمرارِ الحراكِ الثوريِّ، والتفنُّنِ في وسائلِه السلميةِ المبدِعةِ، والتطويرِ المستمرِّ في وسائلِ مواجهةِ القمعِ الانقلابيِّ، والتحديثِ المستمرِّ لآلياتِ وفاعلياتِ الثورة، والتوعيةِ المنتظمةِ للثوارِ ولجماهيرِ الشعبِ بحقائقِ الثورة وإنجازاتِها، والحشدِ المستمرِّ لطوائفِ الشعبِ حولَ أهدافِ الثورةِ الأساسية (العيش – الحرية – العدالة الاجتماعية – الكرامة الإنسانية)، ونشْرِ المكاسبِ الرائعةِ للثورةِ والثوارِ على الأرضِ، وكشْفِ التراجُع المستمرِّ للانقلابِ ورُعاته ودُعاتِه والرعبِ الذي يكبرُ في صدورِهم يومًا بعد يوم، والتأكيدِ على أن النصرَ الكبيرَ يقتربُ بقدْرِ ما تشتدُّ عزائمُ الثوار وتتّحِدُ جهودُهم وتذوبُ خلافاتُهم، ويقوى ثباتُهم، فيأتيهم فرجُ الله القريبُ إن شاء الله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (الأنفال 45).
ولْنَكُنْ حريصينَ كلَّ الحرصِ على سلميَّةِ ثورتِنا، وعلى تمامِ الحَذَرِ من محاولاتِ الانقلابيين خِداعَنا أو استفزازَنا وجَرَّنا بعيدًا عن هذه السلميَّة، حتى يجدُوا لأنفسِهم ويُقدِّمُوا للعالمِ مبرراتٍ وذرائعَ لما يرتكبونَ من جرائمَ، بعد أن انكشفُوا أمامَ الدُّنيا كلِّها، ولا ننسَى شعارَنا الذي أعلنَّاه منذُ بدايةِ الثورةِ على هذا الانقلابِ الدمويِّ الفاشيِّ ﴿لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ (المائدة 28).
وأما القصاص من القتلة فقادم بإذن الله مع انتصار الثورة المباركة ﴿فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا﴾ (الإسراء51).


أخرج الترمذى من حديث ابن مسعود: «أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ: انْتِظَارُ الْفَرَجِ». ولهذِهِ العِبادةِ صُورٌ مِنْها:
انتظارُ الفرجِ بحُسْنِ الظنِّ في اللهِ، وبصدقِ الرجاءِ وقوةِ الأملِ في نصرِه للمظلومين (2-5)

أَحْسِنِ الظَّنَّ بِرَبٍّ عَوَّدَك حَسَنًا أَمْسِ، وَسَوَّى أَوَدَك
إنَّ ربًّا كانَ يَكْفِيكَ الَّذِي كَانَ بِالأَمْسِ سَيَكْفِيكَ غَدَك
قال تعالى ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (الأعراف 56)، وقال بعضُ الصَّالحين: «استَعْمِلْ في كُلِّ بَلِيَّةٍ تَطْرُقُكَ حُسْنَ الظَّنِّ باللهِ عزَّ وجلَّ في كَشْفِها، فَإِنَّ ذلك أَقْرَبُ بِكَ إلى الفَرَج».
وَإِنِّي لَأَرْجُو اللَّهَ حَتَّى كَأَنَّمَا أَرَى بِجَمِيلِ الظَّنِّ مَا اللَّهُ صَانِعُ
وأخرج الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي».
قالَ بعضُ الحكماءِ: «إنَّ الرجاءَ مادَّةُ الصبرِ، والمُعينُ عليه. وعِلَّةُ الرجاءِ ومادَّتهُ: حُسْنُ الظَّنِّ باللهِ، الذي لا يجوزُ أن يخيبَ، فإنَّا قد نستَقْرِيُ الكُرماءَ، فنَجِدُهم يرفَعون مَنْ أَحْسَنَ ظنَّهُ بهمْ، ويتَحوَّبُون منْ تخيّبَ أملُه فيهمْ (يعني يؤثِّمون مَنْ خاب أملُه فيهم)، ويتحرَّجون مَنْ قصدَهم، فكيفَ بأكرمِ الأكرمين، الذي لا يُعْوِزُه أنْ يمنحَ مُؤمِّليه ما يزيدُ على أمانيِّهم فيه».
يَا صَاحِبَ الهمِّ إنَّ الهمَّ مُنْفَرِجٌ أَبْشِرْ بخَيْرٍ فَإنَّ الفَارِجَ اللهُ
اليَأْسُ يَقْطَعُ أحْيانًا بصَاحبِه لَا تَيْأَسَنَّ فَإنَّ الكافيَ اللهُ
اللهُ يُحدِثُ بعدَ العُسْرِ مَيْسَرَةً لَا تجْزَعَنَّ فَإنَّ القاسِمَ اللهُ
إذَا بُلِيتَ فَثِقْ باللهِ وارْضَ بِه إنَّ الَّذي يكْشِفُ البَلْوَى هو اللهُ
واللهِ مَا لَكَ غَيْرُ اللهِ مِنْ أحَدٍ فَحْسبُك اللهُ، في كُلٍّ لَكَ اللهُ
وحُسْنُ الظنِّ الصحيحُ: هو العملُ وفقَ سننِ الله واكتسابُ أسبابِ كشْفِ المحنةِ، وليس هو الأمانيَّ والعيشَ مع الأوْهامِ، وقد تناول الحسنُ البصريُّ قومًا غرَّتهم الأمانيُّ «وقالوا: نُحْسِنُ الظَّنَّ باللهِ، وكذَبُوا، لو أَحْسنُوا الظَّنَّ لَأَحْسَنُوا العمَل».
ومع حُسْنِ الظنِّ يقوَى الرجاءُ وتقوى الثِّقةُ والأملُ في تحقيقِ وعدِ الله بالنصرِ والتمكينِ للصالحين مهما اشتطَّ الانقلابيون في الظلمِ، ومهما أمْعَنوا في القمعِ، بل إنهم كلما ازدادوا غَيًّا وإمعانًا في الظُّلمِ كلما قوِي أملُنا في سقوطِهم وانتصارِ الثورة:
هِيَ الأَيَّامُ والغِيَر وأمرُ اللهِ مُنْتظَرُ
أَتَيْأَسُ أَنْ تَرَى فَرَجًا فَأَيْنَ الرَّبُّ والقَدَرُ
قال عليٌّ رضي الله عنه: «عِنْدَ تَنَاهِي الشِّدَّةِ تكونُ الفُرْجَةُ، وعند تضايُقِ حَلَقِ البَلاءِ يكونُ الرَّخاء».
فإذا احلَوْلَكَ الليلُ انبلجَ الصُّبْحُ، وإذا اشتدَّتْ ظُلمةُ الغَيْثِ لمع البَرْقُ، وإذا شُدَّ الحبلُ انقطع، وإنَّ الأعمَى يقول لابنه: يا بُنَيَّ كيفَ نحنُ من اللَّيْل؟ فإذا قال له: قد اسْوَدَّ الليلُ، قال: قد قَرُبَ الفجْرُ.
إذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى اليَأْسِ القُلُوبُ وضَاقَ لما بهِ الصَّدْرُ الرَّحِيبُ
وَلَمْ تَرَ لانْكِشافِ الضُّرِّ وَجْهًا ولَا أغْنَى بِحِيلَتِه الأَرِيبُ
أَتَاكَ على قُنُوطٍ مِنْكَ غَوْثٌ يَمُنُّ بهِ اللَّطِيفُ المسْتَجِيبُ
وكُلُّ الحادِثَاتِ وَإِنْ تَنَاهَتْ فمَوْصُولٌ بها الفَرَجُ القَرِيبُ
وقيل لعُمرَ رضي الله عنه: اشتدَّ القحْطُ وقَنَطَ الناسُ، فقال: الآن يُمْطَرون. وأخذ ذلك من هذه الآية ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ﴾ (الشورى 28).
وقال بعضُ الحكماء: «أعدلُ الشواهدِ بمحبَّةِ الله جلَّ ذِكْرُه، لتمسُّكِ عبدِه برِحابهِ، وانتظارِ الرَّوحِ منْ ظلِّهِ ومآبِه: أنَّ الإنسانَ لا يأتيه الفَرَجُ، ولا تُدركُه النجاةُ، إلا بعد إخفاقِ أملهِ في كلِّ ما كان يتوجِّه نحوه بأملِه ورغبتِه، وعند انغلاقِ مطالبِهِ، وعَجْزِ حيلتِه، وتَنَاهِي ضَرِّهِ ومحنتِه، ليكونَ ذلك باعثًا له على صَرْفِ رجائِهِ أبدًا إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، وزاجرًا له على تجاوز حُسْنِ ظنِّه به».
إذَا الحادِثاتُ بَلَغْنَ المدَى وكَادَتْ لهنَّ تَذُوبُ الْمُهَج
وحَلَّ البَلاءُ وقَلَّ الوَفَا فعِنْدَ التَّنَاهِي يكُونُ الفَرَج
ولقد اشتدَّ أملُ يعقوبَ في العُثورِ على يوسُفَ عليه السلامُ بعد أنْ بلغت الشدَّةُ أوْجَها بفَقْدِ الولدِ الثاني، فقال ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ (يوسف 83) وبَثَّ في بنيه اليقينَ والأملَ في رَوْح ِالله، وقال ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ (يوسف 87)، وحقَّق اللهُ رجاءَه وجمعَه بأبنائِه، بعد أنْ كان البعضُ يعتبر الحديثَ عن يوسفَ لونًا من الخَرَفِ والضَّلال.
ادْفَعْ بِصَبْرِكَ حَادِثَ الْأَيَّامِ وَتَرَجَّ لُطْفَ الْوَاحِدِ الْعَلَّامِ
لَا تَيْأَسَنَّ وَإِنْ تَضَايَقَ كَرْبُهَا وَرَمَاك رَيْبُ صُرُوفِهَا بِسِهَامِ
فَلَهُ تَعَالَى بَيْنَ ذَلِكَ فُرْجَةٌ تَخْفَى عَلَى الْأَبْصَارِ وَالْأَفْهَامِ
كَمْ مَنْ نَجَا مِنْ بَيْنِ أَطْرَافِ الْقَنَا وَفَرِيسَةٍ سَلِمَتْ مِنْ الضِّرْغَامِ

واعلم أنَّ لكلِّ شيءٍ نهايةً، وهذا البلاءُ الانقلابيُّ لا بُدَّ أنه إلى زوالٍ إن شاء الله:
هَوِّنْ عَلَيْك فَكُلُّ الْأَمْرِ مُنْقَطِعٌ وَخَلِّ عَنْك عَنَانَ الْهَمِّ يَنْدَفِعُ
فَكُلُّ هَمٍّ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ فَرَجٌ وَكُلُّ أَمْرٍ إذَا مَا ضَاقَ يَتَّسِعُ
إنَّ الْبَلَاءَ وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ بِهِ فَالْمَوْتُ يَقْطَعُهُ أَوْ سَوْفَ يَنْقَطِعُ
فثِقُوا باللهِ وأحْسِنُوا الظنَّ به معشرَ الثوارِ الأحرارِ الكرامِ، واستمرُّوا في تصعيدِكم الثوريِّ السلميِّ المبدِع، ووحِّدُوا جُهودَكم ثم ائتُوا صَفًّا واحدًا، وأبشِرُوا وانتظِروا الفرجَ القريبَ من الله، ففي مسندِ أحمدَ أنَّ الصحابيَّ الجليلَ واثِلَةَ بنَ الأَسْقَعِ قال لصاحبِه أبي الأسْوَدِ الجُرَشِيِّ: وَاحِدَةٌ أَسْأَلُكَ عَنْهَا. قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: كَيْفَ ظَنُّكَ بِرَبِّكَ؟ فَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ وَأَشَارَ بِرَأْسِهِ، أَيْ حَسَنٌ. قَالَ وَاثِلَةُ: أَبْشِرْ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ».

انتظارُ الفرج بالصبرِ على الشَّدائدِ وتركِ الشكايةِ، وتوقُّعِ مُفَاجآتِ القَدَر الطَّيِّبة
مِنْ حُسْنِ التَّوْفِيقِ: الصَّبْرُ عَلَى الْمُلِمَّاتِ حتَّى تَنْجَليَ، والثباتُ للشَّدائِدِ حتى تَزُولَ، والصُّمُودُ لِلْمِحَنِ حتَّى يَصْرِفَها اللهُ، وقد كانَ أوَّلُ دَرْسٍ تَرْبَوِيٍّ يُوَجِّهُه موسَى عليه السلامُ لقَومِه لِيُعِدَّهُم لِخَوْضِ مَعْركةِ النَّصْرِ هو الاستعانَةُ باللهِ وبالصَّبْر ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (الأعراف 128)
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أخرجه أحمد وغيره: «وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا».
ورُوي عن عليٍّ رضي الله عنه أنه قال: «أفضَلُ عمَلِ الممتَحَنينَ: انتِظارُ الفَرَجِ منَ اللهِ عزَّ وجلَّ، والصبرُ على قَدْرِ البَلَاء».
وعنه أيضًا: «الصَّبْرُ كفيلٌ بالنجاحِ، والمتوكِّل لا يَخيبُ ظَنُّه».
فما تجرَّع كأسَ الصَّبرِ مُعْتَصِمٌ باللهِ إلاَّ أتاهُ اللهُ بالفَرَج
وقد قيل: «مِنْ أفضلِ آدابِ الرِّجالِ: أنَّه إذا نزلتْ بأحدِهم جائحةٌ، استعملَ الصبرَ عليها، وألهمَ نفسَه الرجاءَ لزوالها، حتى كأنَّه لِصَبْرِه يُعايِنُ الخلاصَ منها والغَناءَ، توكُّلًا على اللهِ عزَّ وجلَّ، وحُسْنَ ظنٍّ به، فمتى لزِمَ هذه الصفةَ، لم يلبثْ أنْ يقضيَ اللهُ حاجتَه، ويُزيلَ كُرْبَتَه، ويُنجِحَ طِلْبَتَه، ومعه دينُه وعِرْضُه ومُروءتُه».
سَأصْبِرُ للزَّمَانِ وإنْ رَمَاني بِأَحْدَاثٍ تَضِيقُ بها الصُّدُور
وأَعْلَمُ أنَّ بعدَ العُسْرِ يُسْرًا يَدُورُ بهِ القَضاءُ المسْتَدِيرُ
وقد ذكر ابنُ القيِّمِ أنَّ مما يُستَعانُ به على الصَّبرِ: انتظارُ الفَرَج، فإنَّ انتظارَه ومُطالعَتَه وتَرَقُّبَهُ يُخفِّفُ حملَ المشَقَّة.
فكُلُّ ضِيقٍ سَيَأْتي بَعْدَهُ سَعَةٌ وَكُلُّ صَبْرٍ وَشِيكٌ بَعْدَهُ ظَفَرُ
وهذا الصبرُ ليس صبرَ اليائسِ العاجزِ، بل هو صبرُ الراضي بقضاءِ ربه، الراجي رحمتَه ونصرَه، السَّاعِي في إِزَالةِ أسبابِ المحنةِ، المتوقعِ لجميلِ صُنْعِ ربه:
توقَّعْ صُنْعَ ربِّكَ سَوْفَ يَأْتي بما تَهْوَاهُ مِنْ فَرَجٍ قرِيبِ
ولا تيْأَسْ إذا مَا نَابَ خَطْبٌ فكَمْ في الغَيْبِ مِنْ عَجَبٍ عَجِيبِ
فكم من مقاديرَ تجري لا يتوقعُها أحدٌ، قال تعالى: ﴿وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾ أي ظهرَ للخلقِ ما لم يكونوا يَظُنُّونَهُ وَيَتَوَقَّعُونَهُ وَيُدْخِلُونَهُ فِي حِسَابِهِمْ، وَمَا لَمْ يُحَدِّثُوا أَنْفُسَهُمْ بِهِ، حين ينخدِعُون بما هُم فيه من القوةِ والسيطرةِ والتَّمْكِين، ويغْتَرُّون بتَقَلُّبِهم في البِلَاد.
عَسَى فرَجٌ يأْتِي بهِ اللهُ إنَّه لَهُ كُلَّ يوْمٍ في خَلِيقتِه أَمْرُ
وقد يكونُ من صُنْعِ اللهِ الخفِيِّ: أنْ يوجِدَ في قلبِ قلعةِ الظُّلْم مَنْ يؤمنُ بالحقِّ ويسعَى لنَصْرِه، كما في قصةِ مؤمنِ آلِ فرعون، وكما في قصةِ الرجلِ الذي جاءَ من أقصَى المدينةِ يسعَى ليُنْقِذَ موسى عليه السلامُ من تدبيرِ المتآمرين عليه.
عَسَى الكَرْبُ الَّذِي أمْسَيْتَ فيهِ يكونُ وراءَهُ فرَجٌ قريبُ
وهل كان المؤمنون أو اليهودُ يتصوَّرون أن ينتهيَ الأمرُ ببني النَّضير تلك النهايةَ المذكورةَ في سورة الحشر ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ (الحشر 2).
وتذكَّرْ أنَّ موسى عليه السلامُ حين ذهب للنَّار كانَ يطلبُ خبرًا أو جذوةً من النار، فإذا بكرمِ الله ينالُه فتأتيه الرسالةُ، ولهذا قال بعضُهم:
كُنْ لما لَا تَرْجُو منَ الأمرِ أَرْجَى منكَ يوْمًا لما لَهُ أنتَ رَاجِ
إنَّ موسَى مضَى ليَطْلُبَ نارًا مِنْ ضِياءٍ رَآه وَالَّليلُ دَاجِ
فَأتَى أهلَه وقَدْ كلَّمَ اللَّــ ــهَ ونَاجَاهُ وهْوَ خَيْرُ مُنَاجِ
وكَذَا الأَمْرُ كُلَّما ضاقَ بالنَّا سِ أتَى اللهُ فيهِ سَاعةً بالانْفِراجِ
وإذا أراد اللهُ أمرًا هيَّأَ له أسبابَه، ولا يملكُ أحدٌ أنْ يتجاوزَ قَدَرَ الله، مهما أُوتِي من الأسباب.
إِنّ المَقاديرَ إِذا ساعَدَتْ أَلحَقَت العاجِزَ بالحازِم
إِذَا مَا أَرادَ اللهُ تيْسِيرَ حَاجةٍ رَأَيْتَ لها مِنْ مَوْضِعِ اليَأْسِ مَخْرَجا
وإذَا لم يشأ اللهُ أمرًا فلنْ يكونَ أبدًا وإنْ تواترتْ أسبابُه:
وكم خيَّبَ الله ظنونَ الظالمين والمنافقين وأمانِيَّهُم في مواطنَ كثيرة، مثل ظنِّهم أنَّ الرسولَ والمؤمنين في أيام صُلحِ الحديبيةِ سيهلِكون، ففاجأَهم بأن فتحَ على رسولِه والمؤمنين فتحًا مبينًا، وخيَّب ظنَّ المنافقين، وقال: ﴿بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً﴾ (الفتح 12).
وكما خيَّب الله أمانِيَّهُم في غزوةِ تَبُوك، إذ رجع المؤمنون منصورين بعد أن ظنَّ المنافقون أنهم سيُهْزَمون هزيمةً منكَرةً، وقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَتَحْسَبُونَ جَلّادَ بَنِي الْأَصْفَرِ كَقِتَالِ الْعَرَبِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ؟ وَاَللّهِ لَكَأَنّا بِكُمْ غَدًا مُقَرّنِينَ فِي الْحِبَالِ، إرْجَافًا وَتَرْهِيبًا لِلْمُؤْمِنِينَ. ففاجأَهُم اللهُ بنصرٍ عظيمٍ للمؤمنين، ولما انكشفَ أمر أولئك المرجِفين أَتَوْا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَعْتَذِرُونَ إلَيْهِ فَقَالوا: كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، فَأَنْزَلَ اللّهُ فِيهِمْ ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنّ إِنّمَا كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ﴾ (التوبة 65).
فثِقُوا باللهِ معشرَ الثوارِ الأحرارِ الكرامِ، واصبِروا واستمرُّوا في ثورتكم الرائعة، وفي نهجِكم السلميِّ المبدِع، وانتظروا مفاجآتِ القَدَرِ السعيدةَ، والفرجَ القريبَ من الله ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج 40).
تابِعُونا في المقالاتِ التالية إن شاء الله.


أخرج الترمذى من حديث ابن مسعود: «أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ: انْتِظَارُ الْفَرَجِ». ولهذِهِ العِبادةِ صُورٌ مِنْها:
انتظارُ الفرجِ بالإيمانِ بحكمةِ اللهِ وعدمِ الاستعجالِ، وأنَّ تقديرَه خيرٌ وإنْ خَفِي علَيْنا(3-5)
فلا يصحُّ أنْ نيأسَ من طولِ المحنةِ، أوْ أنْ نجزعَ من تتابُعِ الشدائدِ، ولا ينبغِي أنْ نَتألَّمَ لتأخُّرِ النصرِ والفرجِ، ولا أنْ نُحبَطَ من كثرةِ التضحياتِ، فلعلَّ علمَه تعالى قد سبقَ بشيءٍ عظيمٍ أكثرَ مما نريدُ، فقد قال تعالى ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُون﴾ (البقرة 216).
وَحِكْمَةُ ربِّي بَالِغَةٌ جَلَّتْ عن حَيْفٍ أوْ عِوَجِ
واللهُ قد يَرْحَمُ بِبَلَائِهِ، وَيَبْتَلِي بِنَعْمَائِهِ، وقد قيل:
قَدْ يُنْعِمُ اللَّهُ بِالْبَلْوَى وَإِنْ عَظُمَتْ وَيَبْتَلِي اللَّهُ بَعْضَ الْقَوْمِ بِالنِّعَمِ
فالمؤمِنُ الصَّحيحُ يَتَعَامَلُ معَ البَلَاءِ الانقلابيِّ النَّازِلِ بالأمةِ وفْقَ ما أمَرَ اللهُ سُبْحَانَه من الصَّبْرِ، والسَّعْيِ والاجْتِهَادِ في إِزَالَتِهِ بالأَسْبَابِ المتاحةِ وتقويةِ الحَراكِ الثوريِّ الفاعلِ، وبالدُّعَاءِ والاسْتِغْفارِ والاستِعَانةِ باللهِ تَعَالى، حتَّى يُيَسِّرَ اللهُ له تحقيقَ المأْمُولِ مِنْ دَحْرِ الانقلابِ، من غيرِ أن يُعطيَ المجرمين الخائنين فرصةً للشماتةِ به
وتَجَلُّدِي للشَّامِتِينَ أُرِيهُمُو أَنِّي لِرَيْبِ الدَّهْرِ لَا أَتَضَعْضَعُ
ولا بدَّ أنْ نعلمَ أن كلَّ يومٍ يمرُّ ونحن ثائرون مُصمِّمُون على استخلاصِ حُقوقِنا ونَيْلِ حُرِّيَّتِنا هو نقصٌ من عمرِ الانقلابِ، وتقريبٌ ليوم الفرجِ والخلاصِ بإذن الله، حُكِيَ أَنَّ الرَّشِيدَ حَبَسَ رَجُلًا، ثُمَّ سَأَلَ عَنْهُ بَعْدَ زَمَانٍ، فَقَالَ المحبُوسُ لِلْمُتَوَكِّلِ بِهِ: «قُلْ لَهُ: كُلُّ يَوْمٍ يَمْضِي مِنْ نِعَمِهِ يَمْضِي مِنْ بُؤْسِي مِثْلُهُ، وَالْأَمْرُ قَرِيبٌ، وَالْحُكْمُ لِلَّهِ تَعَالَى».
أَتَحْسَبُ أَنَّ الْبُؤْسَ لِلْحُرِّ دَائِمٌ وَلَوْ دَامَ شَيْءٌ عَدَّهُ النَّاسُ فِي الْعَجَبْ

لا تستعْجِلْ ففي التأخيرِ حِكْمَة:
مع أنَّ العجلةَ شيءٌ طُبِعَ الإنسانُ عليه ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾ فإن الله تعالى يقول ﴿سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ﴾ (الأنبياء 37)، ولو أنَّ الأمورَ كانتْ للبشرِ لَدفعَهم الاستعجالُ إلى أنْ يتخلَّصَ كلٌّ منهم مِنْ خُصومِه ﴿قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ﴾ (الأنعام 58)، ولكنَّ اللهَ تعالى يدعُونا لعدمِ العجَلةِ، فهو سبحانه يعدُّ للظالمين بعلمِه ما لا يقعُ في حسابِهم، ويُمْهِلُ وَلا يُهْمِلُ ﴿فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا﴾ (مريم 84)، أي: نعدُّ الأعوامَ والشهورَ والأيامَ التي دونَ وقتِ هلاكِهم، فإذا جاء الوقتُ المحدَّدُ لذلكَ أهلكْناهُم، فَهُوَ سُبْحَانَه عَلَى الإِمْهَالِ بَالِغُ أَمْرِهِ ﴿إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ (الطلاق 3).
ويقينُنا أنَّ الانقلابيِّين الظالمين ليسوا استثناءً من قانونِ الله في إهلاكِ الظالمين، فقد قال تعالى ﴿فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ﴾ (الذاريات 59) أيْ لهم نصيبٌ من عذابِ الله مثلَ نصيبِ أصحابِهم ونُظَرائِهم من القرونِ السالفة، ونحن ننتظرُ أن ينزلَ الله بهم ما أنزلَ بأسلافِهم من الظالمين.
ويُحذِّرُ اللهُ المجرمين الذينَ أعماهم الغُرورُ ويستعجِلون عذابَه بأنَّ تأخيرَ العذابِ عنهم ليس عن غفلةٍ، بل عذابُه قريبٌ منهم فيقول ﴿قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ﴾ (النمل 72).
قد نتصوَّرُ أيُّها الثوارُ الأحرارُ أننا لو فُزْنا في هذه الجولةِ أو تلك لكان خيرًا، ولكنَّ حكمةَ اللهِ تكون متعلقةً بما هو أعظمُ، حتى لو كان ذلك مُكَلِّفًا وشاقًّا، فلقد كان المؤمنون في بدرٍ يريدونَ الغنيمةَ، وكان الحقُّ سبحانه يريدُ النصرَ العظيمَ، فحمَلهم إلى المعركةِ وهم كارهون ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ. يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ. وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ. لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾ (الأنفال 5-8).
وكم من أشياء يتمنَّى الإنسانُ حصولَها، يمنعُها اللهُ عنه لأنه سبحانه أعلمُ بضررِها عليه، قال ابنُ مسعودٍ: «إنَّ العبدَ لَيَهُمُّ بالأمرِ من التجارةِ والإمارةِ حتى يُيسَّرَ له، فينظرُ الله إليه فيقولُ للملائكةِ: اصْرِفوه عنه، فإنِّي إنْ يسَّرْتُه له أدخلتُه النارَ، فيصرفُه اللهُ عنه، فيظلُّ يتطيَّرُ يقول: سبَقني فلانٌ، دهَاني فلانٌ، وما هُو إلا فضلُ الله عزَّ وجل».
ألم يحمَد القومُ ربَّهم على نعمةِ الفقرِ حين رأوْا ما نزل بقارون ﴿وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ (القصص 82).
ومن ثَمَّ لا يُضَيِّعُ العقلاء أوْقاتَهم في اللَّوْمِ والتَّأْنيبِ والتَّسَخُّط، ولا يَقُولُ أحد: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا لَكَان كَذَا وكذَا، وإنَّمَا يَجْتَهِدُ الجميعُ في إِزَالَةِ أَسْبابِ المحنَة، والتَّعَاوُنِ بين كُلِّ الْمُخْلِصيَن للخُرُوجِ مِنْها، وانْتِظَارِ الفَرَج، واكْتِسَابِ أَسْبَابِ النَّجَاةِ مَا أَمْكَن، مع الإلحاحِ في الدُّعَاءِ للهِ برَفْعِها.
وثِقُوا أيُّها الثوارُ الأحرارُ الكرامُ أَنَّهُ قَلَّ مَنْ صَبَرَ عَلَى حَادِثَةٍ وَتَمَاسَكَ فِي شِدَّةٍ إلَّا كَانَ انْكِشَافُهَا وَشِيكًا، وَكَانَ الْفَرَجُ قَرِيبًا.
صَبْرًا فَإِنَّ الصَّبْرَ يُعْقِبُ رَاحَةً وَلَعَلَّهَا أَنْ تَنْجَلِي وَلَعَلَّهَا
وَيَحُلُّهَا مَنْ كَانَ صَاحِبَ عَقْدِهَا كَرَمًا بِهِ إذْ كَانَ يَمْلِكُ حَلَّهَا
﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ (آل عمران 126).

انتظارُ الفرجِ باليقينِ بأنَّ القلوبَ بيدِ الله
مما لا يختلِفُ عليه أُولو النُّهَى أنَّ الله سبحانه أَمْلَكُ لقلوبِ عبادِه منهم، وأنه يَحُولُ بينهم وبينها إذا شاءَ، قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾ (الأنفال 24) أَيْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَقْلِهِ حَتَّى لَا يَدْرِيَ لماذا تركَ الأمرَ بعد الإقبالِ عليه.
عن ابن عباس قال: «يَحُولُ بينَ المؤمنِ وبينَ معصيةِ الله، وبينَ الكافرِ وبينَ طاعةِ اللهِ عزَّ وجلَّ».
وعنه في قوله: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ (الرعد 11) قال: فإذا جاءَ القَدَرُ خَلُّوا عَنْه.
وقد قيل: «إنما سُمِّي القلبُ من تَقَلُّبِه»، وفي الحديث عند أحمد: «لَقَلْبُ ابْنِ آدَمَ أَشَدُّ انْقِلاَبًا مِنَ الْقِدْرِ إِذَا اسْتَجْمَعَتْ غَلَيَانًا»، وقال تعالى ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ (الأنعام 110)، قَالَ مجاهد: «نَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الإِيمَانِ لَوْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ، كَمَا حُلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ».
أخرج البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عمر قَالَ: كَثِيرًا مِمَّا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْلِفُ «لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ».
وأخرج مسلم عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: «نَعَمْ إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ».
إنها الحقيقةُ التي يجبُ أن تكونَ ماثلةً أمامَنا دائمًا، فاللهُ وحدَه هو الذي يملكُ القلوبُ، وهو القادرُ على تحويلِ هذه القلوبِ، وعلى تغييرِ العزائمِ والإرادات، فالإنسانُ يعزِمُ على الشيءِ ثم لا يدْرِي إلا وعزيمتُه منتقضةٌ، بدون سببٍ ظاهر.
قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ حِينَ سُئِلَ: بِمَ عَرَفْت رَبَّك؟: «عَرَفْتُ بِوَارِدَاتٍ تَعْجِزُ النَّفْسُ عَنْ عَدَمِ قَبُولِهَا». أي أنه يجدُ نفسَه مُضطرًا إلى أشياء لا يستطيعُ الامتناعَ منها، من غيرِ أن يدريَ سببًا لذلك، فيدركُ أنَّ اللهَ هو الذي يُلقِي في قلبِه ذلك.
قَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ : «عَرَفْت اللَّهَ تَعَالَى بِنَقْضِ الْعَزَائِمِ وَفَسْخِ الْهِمَمِ».
فالإنسانُ يعزمُ أحيانًا على الشيْءِ عزمًا وتصميمًا أكيدًا، وفي لحظةٍ يجدُ نفسَه قد عزمَ على تركِه ونقضَ العزمَ، وقد يَهُمُّ الإنسانُ بالشيءِ متجِهًا إليه، ثم تُنْتَقضُ هذه العزيمةُ ويَنصرِفُ بدون أيِّ سببٍ، وربما يكونُ قد بدأَ فيه فعلًا، والذي نقض العزيمةَ وصرفَ الهِممَ هو الذي أودعَها أولًا وهو الله عز وجل.
وكم من مُتَسلِّطٍ قويٍّ ظنَّ أنَّ الدنيا خضعتْ له وأعطتْه زمامَها، ثم وجدَ نفسَه فجأةً عاجزًا لا يستطيعُ أنْ يفعلَ شيئًا، أو صرفَه الله عن تحقيقِ ما كان يشتهِي ويطمحُ إليه، ولهذا فمنَ انتظارِ الفرجِ أن نتوقعَ أنْ يصرفَ الحقُّ سبحانَه الظالمين فجأةً عما أرادُوه لأسبابٍ خفيَّةٍ لا نعلمُها، وربما هم أيضًا لا يعلمونها، وأنْ يُسلِّطَ عليهم من الأسبابِ الخفِيَّةِ ما يحُول بينهم وبينَ ما خطَّطوا له ورتَّبُوه من الظُّلمِ والفسادِ ﴿وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْل﴾ (سبأ 54).
وتأمَّلْ قولَه تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوْا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيهِم فَكَفَّ أَيْديِهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ ( المائدة 11).
أليسَ اللهُ وحدَه هو الذي يُخرِجُ هذه الملايينَ التي كان كثيرٌ منها غيرَ آبِهٍ بما يجرِي؟ بل ظنَّ الانقلابيون أنَّ الإِمْعانَ في القتلِ والقمعِ سيردَعُ الثائرين، فضلًا عن منعِ وزجْرِ غيرِهم من الانضمامِ إليهِم، فإذا بجُموعِ الشعبِ تزدادُ تحدِّيًا وإصرارًا وإقدامًا، ليستمرَّ الحراكُ الثوريُّ ويتنامَى بشكلٍ لافتٍ مع الأيام، بما لم يكن أحدٌ يتصوَّرُه، فسبحانَ من يُغَيِّر قلوبَ عبادِه كما يشاء.
وكذلك، أليس الله قادرًا على تحويلِ قلوبِ الظالمين، فتتحوَّلُ من الخُلَّة إلى العداوةِ، فيكونُ بعضُهم حربًا على بعضٍ ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾ (الأنعام 65). وقد قيل:
وَمَا مِنْ يَدٍ إلَّا يَدُ اللَّهِ فَوْقَهَا وَلَا ظَالِمٍ إلَّا سَيُبْلَى بِأَظْلَمِ
أليس اللهُ قادرًا على تحويلِ قلوبِ بعضِ الظالمين إلى الحقِّ ودفعِهم إلى نُصْرةِ أهلِه، كما فعلَ بجماعةٍ من قريشٍ سعوْا في نقضِ صحيفةِ المقاطعةِ الظالمةِ للرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومَنْ معه؟.
علينا معاشرَ الثُّوَّار أن ننطلقَ في مسارِنا الثوريِّ السلميِّ المبدِعِ، منتظرينَ فرجَ الله القريبَ، مستعينينَ بالدعاءِ والاستغفارِ، واثقينَ بأنَّ قلوبَ العبادِ بيدِ الله، وهو مَنْ يجعلُ أفئدةً من الناس تهوِي إلى الثورةِ، وتنضمُّ إلى الثوار، وهو مَنْ يجعلُ كثيرًا من المغيَّبين يُفِيقون من غفلتِهم، ويضمُّون جهودَهم إلى جهودِ الثوار، مما يُعَجِّلُ بسقوطِ الانقلابِ وتحقيقِ النصرِ للثورةِ إنْ شاء الله، ولتعلَمُنَّ نبأَهُ بعدَ حِين.
تابِعُونا في المقالاتِ التالية إن شاء الله.


أخرج الترمذى من حديث ابن مسعود: «أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ: انْتِظَارُ الْفَرَجِ». ولهذِهِ العِبادةِ صُورٌ مِنْها:
انتظارُ الفرجِ باليقينِ باستدراجِ اللهِ للظالمين (4-5)

الاستدراج: أن تُدْرِجَ الشيءَ إلى الشيءِ في خِفْيةٍ قليلًا قليلًا، ولا تهجُمُ عليه مرةً واحدةً، وأصله: من الدرجة، وذلك أنّ الراقيَ والنازلَ يرقى وينزل مرقاةً مرقاةً، ومنه درجَ الصبيُّ: إذا قاربَ بين خُطاه.
قال تعالى ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الأعراف 182)، وقال تعالى ﴿فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ. وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ (القلم 44-45).
والمعنى: سنأخذُهم قليلًا قليلًا من حيث لا يحتسِبُون، وذلك أنَّ اللهَ تعالى يَفتحُ للظالمين بابًا من النعمةِ يَغتبِطُون به ويُعطِيهم شيئًا من القوةِ يركَنُون إليه، ويحقِّقُ لهم بعضَ ما يَشْتَهُون فيَطْمئِنُّون إليه، وكلَّما أحدَثُوا ذنبًا أحدثَ لهم نعمَةً ليزيدَ غُرورُهم، ثم يأخذُهم على غِرَّتهم، أغفَلَ ما يكونون.
قال الحسَن: «كم من مُسْتَدْرَجٍ بالإحسانِ إليه، وكم من مَفْتُونٍ بالثناءِ عليه، وكم من مَغْرُورٍ بالسَّتْرِ عليه!».
قال تعالى ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ. فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ. فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأنعام 42-45).
أخرج أحمد عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ» ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ الآية.
ومن نماذجِ الاستدراجِ والأخْذِ العجيبِ بعد تمامِ التمكُّنِ ما جاءَ في قولِه تعالى ﴿حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (يونس 24).
قال أبو عمران الجَوْنيُّ: «لا يغُرنَّكُم من اللهِ تعالى طولُ النسيئةِ ولا حُسْنُ الطلبِ؛ فإنَّ أخذَهُ أليمٌ شديد».
وفي حديث البخاري: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِى لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ». ثُمَّ قَرَأَ ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهْىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾.
ونموذجُ قارونَ واضحٌ في استدراجِ الله للظالمِ حتى يأخذَه في حالةِ تمامِ الفرحِ بما هو فيه لتعْظُمَ حسرتُه، وليكونَ عبرةً لغيرِه، قال تعالى ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ. فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ. وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ (القصص 79–82).
وحتى لا يتصوَّرَ أحدٌ أنَّ إمدادَ اللهِ للظالمين بشيءٍ من النِّعَمِ والقوةِ هو إكرامٌ لهم منه، أو علامةٌ على رِضاه عن جرائمِهم، فإن الله تعالى يقول ﴿فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ. أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ. نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ (المؤمنون 54-56).
وإذا رأيتَ بعضَ المنافقين من أئمةِ الضلالِ ومحترفي الجدلِ تُرفَعُ لهم الراياتُ، ويُؤْثَرون بالمناصِبِ، ويَظْفَرون بالترقياتِ، وتُضْفَى عليهم النعوتُ، ويملؤون الشاشاتِ، ويتصدَّرون الساحاتِ المختلفةَ، وميادينَ العمل المتقدمةَ، في الوقت الذي تُزْوَى فيه النماذجُ الصالحةُ الحريصةُ على وطنِها من أهلِ الرأىِ والخبرةِ والعزمِ والشرفِ، وتُنْسَج لهم الأكفانُ، وتفتح لهم السجون والمعتقلاتُ، فثِقْ بأنَّ هذا كلَّه من الاستدراجِ الإلهيِّ، وكُنْ على تمامِ اليقينِ بقُرْبِ سقوطِ هذا النظامِ الانقلابيِّ الذي يقودُه التافِهون الذين يُريدون أن يغرسُوا في الأمة طباعَ العبيد، وأن تنشأَ الأجيالُ في ظلِّ الانقلابِ الاستبداديِّ عديمةَ الكرامة، قليلةَ الغَنَاء، ضعيفةَ الأخذ والرد.
وما أصدقَ قولَ الشيخ الغزالي رحمه الله: «يستحيلُ أن يتكوَّنَ في ظلِّ الاستبدادِ جيلٌ محترمٌ، أو معدنٌ صُلبٌ، أو خُلُقٌ مكافح». وهو ما لنْ يسمحَ به الشعبُ الحرُّ الذي جعلَ شعارَ ثورتِه (عيش – حرية – عدالة اجتماعية – كرامة إنسانية).
لهذا كلِّه ولغيره يجبُ أنْ نتصدَّى جميعًا للانقلابِ والاستبدادِ بصورةٍ سلميةٍ حضاريةٍ مُبْدِعةٍ تكسِرُ الانقلابَ، وتُفَوِّتُ على الانقلابيين المستبدِّين كلَّ الذرائعِ التي يبرِّرون بها ممارساتِهم القمعيةَ التي لا يُجيدون غيرَها، والتي يُثبِتُ الحَراكُ الثوريُّ المتصاعِدُ كلَّ يومٍ فشلَها، ومهما رأيْنا مظالمَ الانقلابيين تتوالَى، وإمعانَهم في الظلم يتتابعُ؛ فلْنَثِقْ بأنَّ ذلك من استدراجِ الله لهم، وهو علامةُ قُرْبِ نزولِ نِقْمَتِه عليهِم ﴿فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ﴾ (غافر 4).

انتظارُ الفرجِ باليقينِ بأنَّ الآمِنَ من مكْرِ الله خاسِرٌ
من الأسبابِ التي يُهْلِك الله بها الظالمين: الْأَمْنُ الَّذِي يتوهَّمُونَه مِنْ مَكْرِ اللَّهِ، فيُبَالِغُونَ فِي المظالمِ ظانِّينَ أنَّ اللهَ راضٍ عن عمَلِهم، أو أنَّ اللهَ غافِلٌ عما يعملُون، أو كما يتصوَّرُ كثيرٌ من العلمانيِّين أنه –سبحانه وتعالى عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا- لا شأنَ له بمعايشِ الخلقِ وما يجري بينهم من صِرَاع؛ فييستحِقُّون الخُسْران ﴿ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ. أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ. أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ (الأعراف 97-99). قَالَ الْحَسَنُ في مثل هؤلاء: «مُكِرَ بِهِمْ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، أُعْطُوا حَاجَتَهُمْ ثُمَّ أُخِذُوا».
إنَّ الظالمينَ يعيشُون في وهْمِ الأمْنِ من مكرِ اللهِ، حتَّى ينزلَ بهم عذابُه فجأةً في صورٍ مختلفةٍ ﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (النحل 45-47) يعني: أَوْ أَمِنَ هَؤُلاَءِ أَنْ يَأْخُذَهُمُ اللهُ تَعَالَى أَثْنَاءَ تَقَلُّبِهِمْ فِي مَعَايِشِهِمْ، وَاشْتِغَالِهِمْ بِهَا، فَهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ اللهَ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانُوا؟ أَوْ أَمِنُوا أَنْ يَأْخُذَهُمُ اللهُ بَعْدَ أَنْ يُثِيرَ فِي نُفُوسِهِم الخَوْفَ وَالرُّعْبَ.
ونحن يجبُ أن نزدادَ كلَّ يومٍ يقينًا بمكرِ الله تعالى بالظالمين من حيثُ لا يشعُرون، ومن حيثُ لا يعلمُون، بل من حيثُ لا يعلمُ المؤمنون، فهكذا اقتضتْ حِكْمَتُه ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ (الأنعام 123).
ومهما ظنُّوا بأنفسِهم من مهارةٍ في الكيْدِ والمكرِ وقُدرةٍ على الظلمِ والإفسادِ، فإنَّ اللهَ يُطَمْئِنُنا ﴿قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ﴾ (يونس 21).
ومن سنن الله الماضية: أنْ يجعلَ الظالمَ يختنِقُ بحبْلِ ظُلمِه، ويقعُ في بئرِ كيْدِه ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾ (فاطر 43).
أخرج ابنُ المبارك في الزهد عن الزهري قال: بلغنا أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: «لَا تَمْكُرْ وَلَا تُعِنْ مَاكِرًا؛ فإِنَّ اللهَ يقُولُ ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾، ولَا تَبْغِ ولَا تُعِنْ بَاغِيًا؛ فإِنَّ اللهَ تَعَالى يَقُولُ ﴿إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ (يونس 23)، ولَا تَنْكُثْ ولَا تُعِنْ نَاكِثًا؛ فإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ ﴿فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ (الفتح 10)».
وهل الانقلابيُّون على اختلافِ مواقعِهم وأدوارِهم إلَّا ماكرٌ أو مُعِينٌ على المكْر، وبَاغٍ أو مُعِينٌ على البغيِ، وناكِثٌ أو مُعِينٌ عَلى النكثِ؟.
وتأمَّلْ نموذجًا من نماذجِ المكْرِ بالظالمين، فيما جرَى لقومِ لوطٍ، فقد امتلأَ قلبُه غمًّا حين أتاه الملائكةُ في صورةِ ضيوفٍ من البشرِ لا يعرفُهم ﴿وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ﴾ (هود 77)، ولم يستطِعْ أن يكتُمَ عنهمْ ضِيقَه بزيارتِهم، بل ﴿قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ﴾ (الحجر 62)، إذ لم تكنْ له طاقةٌ بحمايتِهم من تحرُّشِ المجرمين من قومه، ولم تُفلِحْ عروضُه عليهم في التزوُّج من بناتِه؛ حتى لا يفضَحُوه مع ضيوفِه ﴿وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ. قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ. قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ (هود 78-80).
ولم يكن لوطٌ يعلمُ ولا كان قومُه يشعُرُون أن هذا الفصلَ العصيبَ الأشدَّ في كلِّ فصولِ القصةِ هو الفصلُ قبلَ الأخيرِ في قصةِ الصراعِ بين الصلاحِ والفسادِ، وإذا بالضيوفِ المنكَرين (كما تصوَّر لوطٌ عليه السلام) ينزِعون الخوفَ والحزنَ من قلب لوطٍ، ويُبَشِّرونه بالفصلِ الأخيرِ القريبِ الوقوعِ لنهايةِ القصة ﴿قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ. فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ﴾ (هود: 81،-83).
فإذا كان هذا قد حدثَ مع هؤلاء الظلَمةِ المفسدين، فليس بعيدًا عن غيرِهم من الظالمين، فلْيَطْمَئِنَّ أهلُ الحق أنَّ عينَ العنايةِ ترْعاهم ﴿وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا﴾ (الرعد 42)، وأن عذابَ الله قريبٌ من الظالمين ﴿وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ﴾ (فاطر 10).
وقصصُ التاريخِ البعيد والقريبِ شواهدُ الصدقِ على إهلاكِ اللهِ لكل ظالمٍ، مهما جمعَ اللهُ عندَه من أسبابِ القوَّةِ والغلَبةِ، وهذا ربُّ العزة والجلال بعد أن ذكر مصارعَ الظالمين ومكرَه بالمعتَدين في الأممِ السابقةِ يقول لأحفادِهم الجُدد ﴿أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ. أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ. سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ (القمر 43-45)، وللعِلْمِ، فهذه الآياتُ نزلتْ بمكةَ والمسلمُون مستضعَفُون خائِفُون، فقد أخرج عبد الرزاق وغيره عَنْ عمر، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ جَعَلْتُ أقولُ: أَيُّ جَمْعٍ يُهْزَمُ؟ فلمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَثِبُ فِي الدِّرْعِ، وَهُوَ يَقُولُ: «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ»، فَعَرَفْتُ تَأْوِيلَهَا يَوْمَئْذٍ».
فلْنَثِقْ بوعْدِ الله، ولْنَنْتظِرْ فرجَه القريبَ، ولْنَكُنْ على يقينٍ من مكرِه بالماكرين وقُرْبِ أخذِه للظالمين، مهما بدَا أنهم يملكون من أسبابِ البقاءِ والتَّمكين، والمهمُّ أن نكون نحن أهلًا لنصرِ الله تعالى، وأن نتَّخِذَ من الأسبابِ ما بوُسْعِنا، ثم ندَعَ الأمرَ لربِّ العالمين ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف 21)
تابِعُونا في المقال التالي إن شاء الله.



أخرج الترمذى من حديث ابن مسعود: «أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ: انْتِظَارُ الْفَرَجِ». ولهذِهِ العِبادةِ صُورٌ مِنْها:
انتظارُ الفرجِ باليقينِ أنَّ مع العُسْر يُسْرين (5-5)
مضتْ سنةُ الله تعالى أن يبتليَ الناسُ بالشِّدَّةِ والرَّخاءِ، وجرَى قضاؤُه الحكيمُ أنْ يفتنَ الناسَ بالخيرِ والشرِّ ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ (الأنبياء 35)، ولكن رحمتَه سبحانه اقتضتْ أيضًا أنْ يقرِنَ بالعُسْر يسرًا، وأن يجعلَ في طيِّ المحنةِ مِنَحًا، وفي موطإ مالك عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: كَتَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، يَذْكُرُ لَهُ جُمُوعًا مِنْ الرُّومِ وَمَا يَتَخَوَّفُ مِنْهُمْ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ مَهْمَا يَنْزِلْ بِعَبْدٍ مُؤْمِنٍ مِنْ مُنْزَلِ شِدَّةٍ يَجْعَلْ اللَّهُ بَعْدَهُ فَرَجًا، وَإِنَّهُ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران 200).
أخذَ اليُسْرَيْن من تنكيرِ اليُسْرِ مع تعريفِ العُسْرِ في قوله تعالى ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ (الشرح 5-6)، فهو عُسْرٌ واحدٌ معه يُسْران.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن عبد الله بن مسعود قال: «لَوْ أنَّ العُسْرَ دَخَلَ في جُحْرٍ لَجَاءَ اليُسْرُ حتَّى يَدْخُلَ مَعَهُ»، ثم قرأ الآيتين.
والقرآنُ يؤكِّدُ أنَّ اليُسْرَ آتٍ لا محالةَ على العُسْرِ ومُزِيلٌ له ﴿سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ (الطلاق 7).
وقال عبدُ بن حُمَيْدٍ لرجلٍ شكَى إليه العُسْرَةَ في أمورِه:
ألَا أيُّهَا المرْءُ الَّذِي في عُسْرِه أَصْبَح إذَا اشْتَدَّ بِكَ الأَمْرُ فَلا تَنْسَ أَلَمْ نَشْرَح
ويزدادُ الرجاءُ كلَّما اشتدَّ الكرْبُ، قال عليٌّ: «عندَ تَنَاهِي الشِّدَّةِ تكونُ الفُرْجَةُ، وعندَ تضَايُقِ البَلاءِ يكونُ الرَّخاءُ، ومعَ العُسْرِ يكونُ اليُسْر».
وَما أحسن ما قَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: «عِنْدَ انْسِدَادِ الْفَرَجِ تَبْدُو مَطَالِعُ الْفَرَجِ» .
عَسَى مَا تَرَى أَنْ لَا يَدُومَ وَأَنْ تَرَى لَهُ فَرَجًا مِمَّا أَلَحَّ بِهِ الدَّهْرُ
عَسَى فَرَجٌ يَأْتِي بِهِ اللهُ إِنَّهُ لَهُ كُلَّ يَوْمٍ فِي خَلِيقَتِهِ أَمْرُ
إذَا اشْتَدَّ عُسْرٌ فَارْجُ يُسْرًا فَإِنَّهُ قَضَى اللَّهُ إنَّ الْعُسْرَ يَتْبَعُهُ الْيُسْرُ
وذكر ابن رجب أنَّ «منْ لطائفِ أسرارِ اقترانِ الفرجِ بالكرْبِ واليُسْرِ بالعُسْرِ: أنَّ الكرْبَ إذا اشتدَّ وعظُمَ وتَنَاهَى وحصَلَ للعبدِ اليأْسُ من كشْفِه من جهةِ المخلوقين، تعلَّقَ قلبُه باللهِ وحدَه، وهذا هو حقيقةُ التوكُّلِ على اللهِ، وهو من أعظمِ الأسبابِ التي تُطْلَبُ بها الحوائجُ، فإنَّ اللهَ يكفِي مَنْ تَوكَّلَ عليه، كما قال تعالى ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ (الطلاق 3)»
وَلَرُبَّ نَازِلَةٍ يَضِيقُ بهَا الفَتَى ذَرْعًا وعِنْدَ اللهِ مِنْهَا الْمَخْرَجُ
ضَاقَتْ فَلَمَّا اسْتَحْكَمَتْ حَلْقَاتُهَا فُرِجَتْ وَكَانَ يَظُنُّهَا لَا تُفْرَجُ
فيا معشرَ الثُّوَّارِ الأحرارِ، لا تُضْعِفَنَّكُم الأحداثُ والشدائدُ والمضايقاتُ، فما هي إلا بُرْهَةٌ قليلةٌ ثم يأتي فرَجُ اللهِ ونصرُه ومثوبتُه لمنْ قام بأمرِه، ومن غرائبِ الأخبارِ التي طالعتُها في كتابِ (أدب الدنيا والدين)، وغيره: أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لَمَّا اسْتَكَدَّ شَيَاطِينَهُ فِي الْبِنَاءِ شَكَوْا ذَلِكَ إلَى إبْلِيسَ، لَعَنَهُ اللَّهُ، فَقَالَ: أَلَسْتُمْ تَذْهَبُونَ فَرْغًا وَتَرْجِعُونَ مَشَاغِيلَ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَفِي ذَلِكَ رَاحَةٌ.
فَبَلَغَ ذَلِكَ سُلَيْمَانَ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ، فَشَغَّلَهُمْ ذَاهِبِينَ وَرَاجِعِينَ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إلَى إبْلِيسَ، لَعَنَهُ اللَّهُ، فَقَالَ: أَلَسْتُمْ تَسْتَرِيحُونَ بِاللَّيْلِ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَفِي هَذَا رَاحَةٌ لَكُمْ نِصْفَ دَهْرِكُمْ.
فَبَلَغَ ذَلِكَ سُلَيْمَانَ، فَشَغْلَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إلَى إبْلِيسَ، لَعَنَهُ اللَّهُ، فَقَالَ: الْآنَ جَاءَكُمْ الْفَرَجُ، فَمَا لَبِثَ أَنْ أُصِيبَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَيِّتًا عَلَى عَصَاهُ!.
فإذا كَانَ هَذَا فِي نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ يَعْمَلُ بِأَمْرِهِ وَيَقِفُ عَلَى حَدِّهِ، فَكَيْفَ بِمَا يجْرِي علَى أَيْدِي الظَّالمينَ منْ شَدَائِدَ تُصيبُ أهلَ الحقِّ والصَّلاح؟.
وَلاَ تَجْزَعْ إذا ما نابَ خَطْبٌ فكَمْ للهِ مِنْ لُطْفٍ خَفِيٍّ
يَدِقّ خَفَاهُ عَنْ فَهْمِ الذَّكِيِّ
وكَمْ مِنْ شِدَّةٍ ذَهَبَتْ وَفَقْرِ وكَمْ يُسْرٍ أتَى مِنْ بَعْدِ عُسْرِ
فَفَرَّجَ كُرْبَةَ القَلْبِ الشَّجِيِّ
وكم هَمٍّ تعاظَمَ ثمَّ راحَا وكَمْ أمْرٍ تُسَاءُ به صَبَاحا
وَتَأْتِيْكَ المَسَرَّةُ بالعَشِيِّ
إِلَى كَمْ يا جَهُولُ تَزِيدُ لُؤْمًا إذَا ضَاقَتْ بكَ الأَحْوَالُ يَوْمًا
فَثِقْ بالواحِدِ الفَرْدِ العَلِيِّ
وإذا استبْطَأَ المؤمنُ الفرجَ مع كثرةِ دعائِه وتضرُّعِه فلْيَرجِعْ إلى نفسِه باللائمةِ، وإلى ربِّه بالاستغفارِ، فهذا يُوجِبُ انكسارَ العبدِ لمولاه، فلذلكَ تُسْرِعُ إليه حينئذٍ إجابةُ الدعاءِ وتفريجُ الكرْب، فإنَّه تعالى عندَ المنكسِرَةِ قلوبُهم من أجله، وبهذه الثقةِ الكاملةِ في مالكِ الملكِ ومدبِّرِ الأمرِ ينطلقُ المؤمنُ في الحياةِ، مستهينًا بالشَّدائدِ، ساعيًا في التصدِّي لها والصبرِ عليها، سالكًا كلَّ السُّبُلِ في إزالتِها، واثقًا في فرجِ اللهِ القريب.
سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا بِهِ يَذْهَبُ العَنَاءُ
يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنْهُ جَمِيعًا وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ
أمَّا القاعدُون يأْسًا أو جُبْنًا أو نِفاقًا فنقولُ لهم ﴿فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ﴾ (المائدة 52).



انتظارُ الفَرجِ باليقينِ في نَصْرِ اللهِ للحَقِّ وأهْلِه
مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ تعالى بِأَنْ يحْصُلَ التَّدَافُعُ بينَ الخيْرِ والشرِّ، وعاقبةُ هذا التدافُعِ معلومةٌ يقينًا، وهي النصرُ لأهلِ الحقِّ الصابرين على الجهادِ والتضحيةِ في سبيلِه ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الروم 47)، ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ﴾ (غافر 51)، ﴿وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ (الصافات 173)، ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء 105)، إلى غير ذلك من الآياتِ القاطعةِ بأنَّ نصرَ اللهِ حاصلٌ لا محالةَ للمؤمنين، وبخاصة إذا تعرَّضُوا للظُّلْمِ وبُغِيَ عليهم.
وربما تشتَدُّ المحنةُ التي يتعرَّضُ لها أهلُ الحق، ويطولُ زمانُ الابتلاءِ والاختبارِ ويمتدُّ، وتتأثَّرُ النفوسُ نتيجةَ أحداثٍ جِسامِ مُفاجئةٍ، كما حدَثَ للمؤمنينَ يومَ الأحزابِ ﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا. هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا﴾ (الأحزاب10-11)، لكن المؤمنينَ يُوقِنون بنصرِ اللهِ، ويتَّخِذُون من الزِّلْزالِ بشيرًا باقترابِ النَّصْرِ، ويردِّدُون على قلوبِهم الوعدَ الإلهيَّ ﴿أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾، ويُدْرِكون يقينًا أنَّ اشتدادَ المحنةِ بَشِيرُ زَوَالِها، وأنَّ بينَهم وبينَ النصرِ مسافةً قريبةً جدًّا، عليهم أنْ يقطعُوها بالصَّبْرِ والثباتِ واليقينِ بنصرِ الله ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ (يوسف 110)، فلا تهتزَّ إنْ تأخَّرَ النصرُ قليلًا، حتى لو كان العددُ قليلًا والعُدَّةُ ضعيفةً، طالما انبعثتْ العزائمُ العظيمةُ تنصُرُ الحقَّ وتواجِهُ الباطل، فــ ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة 249).
يجبُ أنْ نكونَ على يقينٍ من أنَّ نصرَ هذه الأمةِ وعدٌ إلهيٌّ لا ريبَ في وقوعِه ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ (النور 55)، ونحن نوقِنُ بهذا الوعدِ يقينَنا بالشمسِ في رابعةِ النَّهار.
وعلينا معاشرَ الثُّوارِ أنْ نُحسِنَ الظنَّ بربِّنا، وأنْ نجمعَ صفوفَنا، وأنْ نوقِنَ أنَّ الشدائدَ التي تمرُّ بها الأمةُ على أيدِي الانقلابيين ومَنْ وراءَهم من المجرمين في الداخلِ والخارجِ هي أماراتُ ميلادٍ جديدٍ عظيمٍ بإذن الله، متى اجتهدْنا في حُسْنِ إدارةِ الأمور، واتخاذِ كلِّ الأسبابِ الماديةِ للنَّصرِ؛ مع يقينِنا الذي لا يَهْتَزُّ أنَّ الأمرَ بيد اللهِ وحدَه، وأنه لا مجالَ لليأْسِ في طريقِ الخلاصِ والتحريرِ، ولا يمكنُ الاستسلامُ لمخطَّطاتِ الثورةِ المضادَّة على الإطلاق:
لا تَقُولُوا: زرَعَ الزارِعُ والباغِي حَصَدْ
لا تَقُولُوا: حارِسُ الثَّغْرِ رَقَدْ
أنَا لا أُنكِرُ أنَّ البَغْيَ في الدُّنْيَا ظَهَرْ
والضَّميرَ الحيَّ في دوَّامَةِ العَصْرِ انْصَهَرْ
أنَا لا أُنْكِرُ أنَّ الوهْمَ في عالمِنَا المسْكُونِ بالوَهْمِ انتَشَرْ
غيْرَ أنَّي لم أزَلْ أحلِفُ باللهِ الأحَدْ
أنَّ نَصْرَ اللَّهِ آتٍ، وعدوَّ اللهِ لَنْ يلْقَى منَ اللهِ سَنَدْ
واعلموا أيها الثوارُ الأحرارُ أنَّ المستقبلَ بإذنِ الله لهذا الدِّين، فمهْمَا احْلَوْلَكَت الظُّلْمةُ، وحاول البعضُ تغييبَ الحقيقةِ؛ إلا أنها ستشرقُ شمسُ الحقِّ على الدُّنْيا في يومٍ قريبٍ، وسيصْفُو الجوُّ الَّذي طالما تكدَّر، وسيتبدَّدُ الظلامُ الذي طغَى وانتشر، وستخْتفِي زعاماتُ الانقلابِ والفسادِ مغلوبةً مدْحُورةً، وسيظهرُ الحقُّ ويُزْهَقُ الباطِلُ، طالما استمرَّ هذا الحراكُ الثوريُّ السلميُّ المتصاعِدُ بعزيمةِ الشبابِ الحرِّ:
فلا تَحسَبُـوا أنَّ الهُمُـومَ مُقِيمَـةٌ رُوَيدًا فإنّ اللهَ بالخـلْقِ أَبْصَرُ
ستُؤْخَذُ ثـاراتٌ وتُقضَى حَوَائـجٌ وتَبْدُو إشَاراتٌ وتُقْصَمُ أَظْهُرُ
وها هي بشائرُ النصرِ تظهرُ مع الصمودِ البطوليِّ للثوارِ على مدارِ أكثرَ من ثمانيةِ شهور، فقد استطاعت الثورةُ محاصرةَ الانقلابِ داخليًّا بمقاطعةِ استفتائِه الباطلِ، ومحاصرتَه دبلوماسيًا ودوليًا فلم تعترف به معظمُ دولِ العالم، وحتى الذين يتعاملون معه سرًّا يستحْيُون أنْ يُعلِنُوا حقيقةَ عَلاقتِهم به، كما نجحت الثورةُ في مطاردةِ رموزِ الانقلابِ أمامَ القضاءِ الدولي، ومحاصرتَهم في كل المحافلِ الدولية، كما صار رمزُ رابعةَ رمزَ الحريةِ في العالم كلِّه، ويخسرُ هذا الانقلابُ كلَّ يومٍ فئاتٍ من المغَيَّبين المخدوعِين به الذين يُفِيقون على وقْع الكوارثِ التي يُسبِّبُها لهذا الوطن، ويوشِك على الانهيار التام، وها هي جموعُ الأحرار تتوحَّدُ على أهدافِ الثورةِ (عيش – حرية – عدالة اجتماعية – كرامة إنسانية)، ومع الوحدةِ يتنزَّلُ النصرُ إن شاء الله تعالى.
ولئن تأخَّر النصرُ عن أسبابِه أو تأخَّر عنَّا فعلينا أنْ نرجعَ إلى أنفسِنا باللَّوْمِ وإلى ربِّنَا بالتوبةِ، ونُوقِنَ بأنَّ المعركةَ لم تَنْتَهِ بعدُ، بل لا تزالُ فيها جَوْلاتٌ ستنتهِي حتمًا بالنصرِ الكبيرِ الذي سيغيِّرُ وجهَ الدنيا بإذنِ الله، مع التوبةِ والصدقِ ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الروم 4-6).
اللَّهُمَّ يَا ذَا الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ، اجْعَلْنَا مِمَّن استَغَاثَ بِكَ فَأَغَثْتَهُ، ودَعَاكَ فَأَجَبْتَهُ، وتَضَرَّعَ إِلَيْكَ فَرَحِمْتَهُ، وتَوَكَّلَ عَلَيْكَ فَكَفَيْتَهُ، واسْتَعْصَمَ بِكَ فَعَصَمْتَهُ، وَوَثقَ بِكَ فَحَمَيْتَهُ، واسْتَهْدَاكَ فَهَدَيْتَهُ، وانْقَطَعَ إِلَيْكَ فَآوَيْتَهُ، واسْتَنْصَرَ بِكَ فَنَصَرْتَهُ، وَأَنْتَ خَيْرُ النَّاصِرِين.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق